قطز وعين جالوت
خرج قطز يوم الإثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة.التقى الفريقان في المكان المعروف باسم عين جالوت في فلسطين في 25 رمضان 658 هـ/3 سبتمبر 1260 م (وقت وصول الجيشين تماما مختلف فيه). قام سيف الدين قطز بتقسيم جيشه لمقدمة بقيادة بيبرس وبقية الجيش يختبئ بين التلال وفي الوديان المجاورة كقوات دعم أو لتنفيذ هجوم مضاد أو معاكس. وكان قطز قد اجتمع بالإمراء، فحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوفهم وقوع مثل ذلك، وحضهم على استنقاذ الشام من التتار ونصرة الإسلام والمسلمين، فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتار ودفعهم عن البلاد
ساعة الصفر
نظر كتبغا إلى مقدمة القوات الإسلامية وكان لا يدرك شيئاً عن القوات الرئيسية المختبئة خلف التلال، فوجد أن قوات المقدمة الظاهرة أمامه قليلة جداً بالنسبة لقواته.. ومع ذلك فهي في هيئة حسنة ومنظر مهيب، فأراد كتبغا أن يحسم المعركة لصالحه من أول لحظاتها.. لذلك قرر أن يدخل بكامل جيشه وقواته لحرب مقدمة المسلمين..وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله ..وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته.. وانهمرت جموع التتار الرهيبة وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين..
أعداد هائلة من الفرسان ينهبون الأرض في اتجاه القوات الإسلامية..
أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس فقد كان يقف في رباطة جأش عجيبة, ومعه الأبطال المسلمون يقفون في ثبات، وقد ألقى الله عليهم سكينة واطمئناناً، وكأنهم لا يرون جحافل التتار..حتى إذا اقتربت جموع التتار أعطى بيبرس إشارة البدء لرجاله.. فانطلقوا في شجاعة نادرة في اتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار..وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً..وارتفعت سحب الغبار في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الواقفين على جنبات السهل وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وعلا صليل السيوف على أصوات الجند..واحتدمت المعركة في لحظات.. ورأى الجميع من الهول ما لم يروه في حياتهم قبل ذلك..
كانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيارها لتكون قادرة على تحمل الصدمة المغولية التترية الأولى.. والذي يحرز النصر في بداية المعركة يستطيع غالبًا أن يحافظ عليه إلى النهاية.. ليس فقط للتفوق العسكري ولكن أيضاً للتفوق المعنوي..
وكان كثير من أمراء هذه المقدمة بما فيهم ركن الدين بيبرس من أولئك الذين شاركوا في موقعتي المنصورة وفارسكور ضد الحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك منذ عشر سنوات في سنة 648 هـ، وبذلك يكون هؤلاء الأمراء من أصحاب الخبرة العسكرية الفائقة، ومن أعلم القادة بطرق المناورة وأساليب القتال وخطط الحرب..
خطة قطز في عين جالوت
استنزاف المغول
ثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري..
كل هذا وقطز رحمه الله يرقب الموقف عن بعد، ويصبر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة..
ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور..
ومع الفجوة الهائلة في العدد بين الفريقين إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات..
كان هذا هو الجزء الأول من الخطة الإسلامية: استنزاف القوات المغولية التترية في حرب متعبة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم..
ثم جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة.. ودقت الطبول دقات معينة لتصل بالأوامر من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني من الخطة..
خطة الانسحاب والكمائن
وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، وحبذا لو سُحب الجيش بكامله، بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها..
وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ هذا الجزء من الخطة على صعوبته، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع.. وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال..
وقد كانت هذه العوامل متوافرة في الجيش بحمد الله، وقبل هذا بالطبع كان توفيق الله عونًا لهذا الجيش الصامد..
خطة معركة نهاوند
هذه الخطة يا إخواني هي نفس خطة القوات الإسلامية في معركة نهاوند الشهيرة ضد القوات الفارسية وذلك في سنة 19هـ، وكان يقوم بدور ركن الدين بيبرس القائد الإسلامي الفذ الصحابي القعقاع بن عمرو التميمي ، وكان يقوم بدور قطز رحمه الله الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرّن ، وقام ساعتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الذي قضى على قوات الفرس تماماً في نهاوند..
وهنا في عين جالوت يستفيد قطز رحمه الله من تجارب المسلمين السابقة ويطبق خطة نهاوند بحذافيرها..
وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة تقدم جيش التتار في مكانه..
وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وهم يضغطون على المسلمين، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت، وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل بل أخذ معه كل جنوده!!
غباء القوة
كيف فعل كتبغا ذلك؟
إنه خطأ عسكري لا ريب !!
وكتبغا قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فقد جاوز الستين من عمره، ولعله جاوز السبعين، فهو من الذين عاصروا جنكيزخان، وجنكيزخان مات قبل هذه الموقعة بأربعة وثلاثين سنة، قضاها كتبغا كلها في حروب وقيادة..
لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قوات احتياط خارج السهل لتؤمن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي..
لكن هذا لم يحدث !!
لقد توقفت العقلية المغولية التترية عن التفكير السليم في وقت حساس جداً من أوقات المعركة.. قد يفسر ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم، وقد يفسر بضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي، وقد يفسر بالغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه مما جعله يستهين تماماً بقوات المسلمين، وقد يفسر بأن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن كتبغا لا نعرفها..
قد يفسر بأي شيء من هذا أو بغيره.. لكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية، فضلاً عن قائد مخضرم مثل "كتبغا"!!
ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول في مثل هذا الموقف هو أن هذا تدبير رب العالمين I، الذي يخرج عن القياسات العادية للبشر، ويدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة.. ولو تكررت نفس الظروف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس القرار أبداً، ولكن الله أراد لهذا الجيش التتري الهلكة على يد الجيش المسلم، فدفع كتبغا إلى اتخاذ قرار لا يتناسب أبداً مع إمكانيته كقائد عسكري، ولا يتناسب مع قوات جيشه كجيش ضخم، ولا يتناسب مع ساحة المعركة التي تعتبر كالقفص الذي له باب واحد، فإذا دخل الجيش بكامله القفص وأغلق الباب فالنجاة تكاد تكون مستحيلة..
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وهكذا دفع كتبغا جيشه دفعاً للدخول بكامله في سهل عين جالوت..
وبذلك نجح الجزء الثاني من الخطة الإسلامية نجاحاً مبهراً..
وبدأ تنفيذ الجزء الثالث من الخطة..
كتبغا والمغول في المصيدة
وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق..
ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة.. نزلت من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم..
الخطة تسير في منتهى الإحكام والدقة، ومع ذلك فهذه الخطة تحمل في طياتها خطورة عظيمة على الجيش الإسلامي نفسه.. لماذا؟ لأن حصار التتار دون ترك فرصة الهروب لهم سوف يدفع كل الجنود التتار لإخراج كل طاقاتهم.. إنهم سيقاتلون قتال المستميت..
قتال المحصور.. قتال الحياة أو الموت وليس قتال الهزيمة أو النصر..
لكن في نفس الوقت إن نجحت الخطة فسوف يكون فيها هلاك عدد ضخم من الجيش التتري.. وقد تكون هذه هي الضربة القاصمة القاضية على هذا الجيش الرهيب..
واحتدم اللقاء
واكتشف كتبغا الخطة الإسلامية بعد فوات الأوان، وحُصر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ.. لا مجال للهرب، ولا مجال للمناورات.. السهل منبسط والمساحات مكشوفة، وليس هناك من حماية إلا خلف السيوف والدروع.. لا بديل عن القتال حتى الموت..
حرب ضارية بشعة.. أخرج التتار فيها كل إمكانياتهم، وبدءوا يقاتلون بحمية بالغة.. والمسلمون صابرون ثابتون..
وظهر تفوق الميمنة التترية ـ كما أخبر بذلك رسول صارم الدين أيبك ـ وبدأت الميمنة التترية تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفون حول الجيش الإسلامي، وتتعادل بذلك الكفتان، وقد ترجح كفة التتار.. ويصبح إغلاق السهل خطراً على المسلمين..
وقطز رحمه الله يقف في مكان عال خلف الصفوف يراقب الموقف بكامله، ويوجه فِرَق الجيش إلى سد الثغرات، ويخطط لكل كبيرة وصغيرة..
قطز في عين جالوت
شاهد قطز رحمه الله المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بقوات احتياطية، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، ولعل بعضهم قد شك في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه إنه لا يهزم..
وقطز رحمه الله يشاهد ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة، ولكن الموقف تأزم جداً، هنا لم يجد قطز رحمه الله إلا حلاً واحداً لا بديل له..
لا بد أن ينزل بنفسه رحمه الله إلى ساحة القتال..
لا بد أن يثبّت جنوده بالطريقة التي اعتادها معهم... طريقة القدوة!
لا بد أن يوضح لجنوده بطريقة عملية أن الموت في سبيل الله غاية ومطمح وهدف..
نحن نريد الآخرة.. وهم يريدون الدنيا.. وشتان!!
هنا فعل قطز رحمه الله فعلاً مجيداً..
لقد ألقى بخوذته على الأرض.. تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة التي قلب الموازين في أرض المعركة..
واإسلاماه
لقد صرخ قطز رحمه الله بأعلى صوته: واإسلاماه.. واإسلاماه..!!
وألقى بنفسه رحمه الله وسط الأمواج المتلاطمة من البشر..
وفوجئ الجنود بوجود القائد الملك المظفر قطز رحمه الله في وسطهم.. يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون.. ويقاتل كما يقاتلون..
أي تأييد؟! وأي تثبيت؟! وأي سكينة؟! وأي اطمئنان؟!!
القضية إذن واضحة جداً أمام الجميع.. القضية قضية إغاثة الإسلام والدفاع عنه.. القضية ليست أبداً حفاظاً على ملك.. أو حماية لكرسي.. القضية ليست حرصاً على توريث لابن أو عائلة..
القضية ـ يا إخواني ـ قضية صادقة..
وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه.. والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيراً عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه..
والتهب حماس الجنود، وهانت عليهم جيوش التتار، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة..
إنها ليست هجمة على ذواتهم.. إنها هجمة على الإسلام..
واشتعل القتال في سهل عين جالوت.. وعلا صوت تكبير الفلاحين على كل شيء.. ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من شهر رمضان..
وقاتل قطز رحمه الله قتالاً عجيباً..
ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز رحمه الله فأخطأه ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجل قطز رحمه الله على الأرض، وقاتل ماشياً لا خيل له! وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته رحمه الله..
ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشياً، فجاء إليه مسرعاً، وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز رحمه الله امتنع، وقال: "ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!!"
وظل يقاتل ماشياً إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية!!
وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له: لمَ لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك..
فقال قطز في يقين رائع: "أما أنا كنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قتل فلان وفلان وفلان... حتى عد خلقاً من الملوك مثل (عمر وعثمان وعلي y) فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام "..
رحمك الله يا قطز.. كنت ـ ولا زلت والله ـ قدوة للمسلمين..
وعلى أكتاف أمثالك تنهض الأمم..
ونتيجة مثل هذه المواقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقياً جداً في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة..
وبدأت الكفة - بفضل الله - تميل من جديد لصالح المسلمين.. وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار.. وكان يوماً على الكافرين عسيراً..
مصرع كتبغا
وتقدم أمير من أمراء المماليك المهرة في القتال وهو جمال الدين آقوش الشمس، وهو من مماليك الناصر يوسف الأيوبي، وقد ترك الناصر لما رأى تخاذله وانضم إلى جيش قطز، وأبلى بلاءً حسناً في القتال، واخترق الصفوف التترية في حملة صادقة موفقة حتى وصل في اختراقه إلى … … … كتبغا.. قائد التتار!!!
لقد ساقه الله إليه!!
ورفع البطل المسلم سيفه، وأهوى بكل قوته على رقبة الطاغية المتكبر كتبغا.. وطارت الرأس المتكبرة في أرض القتال.. وسقط زعيم التتار.. وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار.. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
وتغير سيناريو القتال عند التتار.. فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب.. وانطلق المسلمون خلف التتار، يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً..
وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية..
ضاعت السمعة .. وسقطت الهيبة.. ومُزّق الجيش الرهيب..
موقعة بيسان
ركز التتار جهدهم على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي.. واستطاعوا بعد لأْيٍ شديد أن يُحْدثوا ثغرة في الصف المسلم الواقف على باب المدخل، وانطلق التتار في سرعة عجيبة يولون الأدبار، وخرجت أعداد كبيرة يسرعون الخطى في اتجاه الشمال لعل هناك مهربًا.. وجيوش المسلمين تجري خلف جيوش التتار.. لا يتركونهم.. فليس الغرض هو الانتصار في موقعة ما، وتحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده.. إنما الغرض تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد..
التتار ينهبون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم..
ووصل التتار الفارون إلى بيسان (حوالي عشرين كيلومتر إلى الشمال الشرقي من عين جالوت) ووجد التتار أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد، لتدور موقعة أخرى عند بيسان أجمع المؤرخون على أنها أصعب من الأولى، وقاتل التتار قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المسلمين, وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون، وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية.. ورأى قطز رحمه الله كل ذلك..
فهو لم يكن "قريباً من الأحداث".. بل كان "في وسط الأحداث"..
فانطلق قطز يحفز الناس، ويدعوهم للثبات..
ثم أطلق صيحته الخالدة:
واإسلاماه، واإسلاماه، واإسلاماه..
قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع:
"يا الله!! انصر عبدك قطز على التتار! "..
الله أكبر..
ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام!..
يا الله.. انصر "عبدك" قطز على التتار..
لستُ أنا الملكَ المظفر.. لستُ أميرَ المسلمين.. لستُ سلطانَ مصر..
إنما أنا عبدك..
بالله عليكم.. كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله.. ثم يتركه الله U؟
عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:
"يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"[1]..
لقد دق قطز على الباب الذي ما طرق عليه صادق إلا وفتح له..
لقد تقرب قطز إلى من بيده ملكوت السموات والأرض..
وعندما يخشع ملوك الأرض يا إخوة، لابد أن يرحم جبار السموات والأرض..
لقد كان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار فأهلكهم..
ما إن انتهى من دعائه وطلبه ـ رحمه الله ـ إلا وخارت قوى التتار تماماً..
نصر المسلمين ونهاية المغول
وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان..
قضى المسلمون تماماً على أسطورة الجيش الذي لا يقهر..
وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار..
وجاءت اللحظة التي ينتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو تزيد..
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4- 5].
أتدرون كم بقي من جيش التتار بعد عين جالوت؟!
لقد أبيد جيش التتار بكامله !!
لم يبق على قيد الحياة من الجيش أحد بالمرة.. هل سمعتم أمراً كهذا؟!
لقد فني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية..
فني الجيش الذي سفك دماء الملايين وخرب مئات المدن، وعاث في الأرض فساداً..
وانتصر الجيش الإسلامي العظيم..
هنيئاً لكم أيها المسلمون بالنصر العظيم!!
هنيئاً لك يا قطز.. فقد حان وقت قطف الثمار!!
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
ماذا فعل قطز رحمه الله عندما رأى جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة؟
لقد نزل البطل المجاهد العظيم التقي الورع.. نزل من على فرسه..
ومرّغ وجهه في الأرض.. يسجد شكراً لله U!!
ما دخله غرور المنتصرين.. وما رفع رأسه بزهو المتكبرين..
وما شعر أنه قد فعل شيئاً..
بل إن الفضل والمنة لله U.. هو الذي أنعم عليه بأن اختاره ليكون مجاهداً.. هو الذي من عليه بالثبات.. هو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي.. هو الذي هداه السبيل..
هنا بيت القصيد..
أن تعرف أنك عبد الله.. لا تُنصر إلا بنصره.. ولا تنجو إلا برحمته، ولا تتحرك إلا بإرادته..
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4].
إذا أردتم أن تعرفوا قطز رحمه الله.. فانظروا إلى كثير من الزعماء الذين ينتفخون كِبراً وزهواً وفخراً، ويتطاولون على خلق الله، ويُصَعِّرون خدودهم للناس، ويمشون في الأرض مرحاً.. كأنما يبغون خرق الأرض أو مطاولة الجبال!! .. وما فعلوا لأمتهم معشار ما فعله قطز رحمه الله..
بل كانوا وبالاً على شعوبهم، ومصيبة على أمتهم..
هنا تبرز قيمة قطز الحقيقية..
"وبضدها تتميز الأشياء"..
ومن هنا فلا عجب أن يُنصر قطز رحمه الله، ولا عجب أن يُخذل غيره..
والله لا يظلم أحداً..
يقول تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
الإنسان هو الذي يختار..
لم يأت قطز رحمه الله في زمان تمكين ولا سيادة.. لم يأت في ظروف طيبة ومريحة..
لم يحكم البلاد وهي قوية قاهرة.. لم يجلس على الكرسي وأموال دولته لا تحصى..
إنما كانت كل الظروف ضده..
لكنه استعان بالله، وعمل بصدق وإخلاص، وحفز الآخرين على العمل معه.. فكان لابد من الوصول..
ويوم يعمل المسلمون كما عمل قطز رحمه الله سيصلون حتماً إلى ما وصل إليه..
وليس بالضرورة أن يحتاج التغيير إلى سنوات أو قرون أو عقود..
فقد كانت عين حالوت بعد عشرة أشهر فقط من تولي قطز مقاليد الأمور..
المهم أن يوجد المخلصون الصادقون العالمون العاملون..
ووعد الله لا يتخلف أبداً..
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
من ويكيبيديا وقصة التتار
محمود ماهر
خرج قطز يوم الإثنين الخامس عشر من شعبان سنة 658 هـ - 1260م بجميع عسكر مصر ومن انضم إليهم من عساكر الشام ومن العرب والتركمان وغيرهم من قلعة الجبل في القاهرة.التقى الفريقان في المكان المعروف باسم عين جالوت في فلسطين في 25 رمضان 658 هـ/3 سبتمبر 1260 م (وقت وصول الجيشين تماما مختلف فيه). قام سيف الدين قطز بتقسيم جيشه لمقدمة بقيادة بيبرس وبقية الجيش يختبئ بين التلال وفي الوديان المجاورة كقوات دعم أو لتنفيذ هجوم مضاد أو معاكس. وكان قطز قد اجتمع بالإمراء، فحضهم على قتال التتار وذكرهم بما وقع بأهل الأقاليم من القتل والسبي والحريق، وخوفهم وقوع مثل ذلك، وحضهم على استنقاذ الشام من التتار ونصرة الإسلام والمسلمين، فضجوا بالبكاء، وتحالفوا على الاجتهاد في قتال التتار ودفعهم عن البلاد
ساعة الصفر
نظر كتبغا إلى مقدمة القوات الإسلامية وكان لا يدرك شيئاً عن القوات الرئيسية المختبئة خلف التلال، فوجد أن قوات المقدمة الظاهرة أمامه قليلة جداً بالنسبة لقواته.. ومع ذلك فهي في هيئة حسنة ومنظر مهيب، فأراد كتبغا أن يحسم المعركة لصالحه من أول لحظاتها.. لذلك قرر أن يدخل بكامل جيشه وقواته لحرب مقدمة المسلمين..وهذا تماماً ما كان يريده الملك المظفر قطز رحمه الله ..وأعطى كتبغا قائد التتار إشارة البدء لقواته.. وانهمرت جموع التتار الرهيبة وهي تصيح صيحاتها المفزعة على مقدمة جيش المسلمين..
أعداد هائلة من الفرسان ينهبون الأرض في اتجاه القوات الإسلامية..
أما القائد المحنك ركن الدين بيبرس فقد كان يقف في رباطة جأش عجيبة, ومعه الأبطال المسلمون يقفون في ثبات، وقد ألقى الله عليهم سكينة واطمئناناً، وكأنهم لا يرون جحافل التتار..حتى إذا اقتربت جموع التتار أعطى بيبرس إشارة البدء لرجاله.. فانطلقوا في شجاعة نادرة في اتجاه جيش التتار، ولا ننسى أن هذه المقدمة الإسلامية قليلة جداً بالنسبة لجيش التتار..وارتطم الجيشان ارتطاماً مروعاً..وارتفعت سحب الغبار في ساحة المعركة، وتعالت أصوات دقات الطبول وأصوات الآلات المملوكية، وعلت صيحات التكبير من الفلاحين الواقفين على جنبات السهل وامتزجت قوات المسلمين بقوات التتار، وسرعان ما تناثرت الأشلاء وسالت الدماء، وعلا صليل السيوف على أصوات الجند..واحتدمت المعركة في لحظات.. ورأى الجميع من الهول ما لم يروه في حياتهم قبل ذلك..
كانت هذه الفرقة المملوكية من أفضل فرق المسلمين، وقد أحسن قطز رحمه الله اختيارها لتكون قادرة على تحمل الصدمة المغولية التترية الأولى.. والذي يحرز النصر في بداية المعركة يستطيع غالبًا أن يحافظ عليه إلى النهاية.. ليس فقط للتفوق العسكري ولكن أيضاً للتفوق المعنوي..
وكان كثير من أمراء هذه المقدمة بما فيهم ركن الدين بيبرس من أولئك الذين شاركوا في موقعتي المنصورة وفارسكور ضد الحملة الصليبية السابعة بقيادة ملك فرنسا لويس التاسع، وذلك منذ عشر سنوات في سنة 648 هـ، وبذلك يكون هؤلاء الأمراء من أصحاب الخبرة العسكرية الفائقة، ومن أعلم القادة بطرق المناورة وأساليب القتال وخطط الحرب..
خطة قطز في عين جالوت
استنزاف المغول
ثبتت القوات الإسلامية ثباتاً رائعاً مع قلة عددها، مما دفع كتبغا إلى استخدام كل طاقته دون أن يترك أي قوات للاحتياط خلف الجيش التتري..
كل هذا وقطز رحمه الله يرقب الموقف عن بعد، ويصبر نفسه وجنده عن النزول لساحة المعركة حتى تأتي اللحظة المناسبة..
ومرت الدقائق والساعات كأنها الأيام والشهور..
ومع الفجوة الهائلة في العدد بين الفريقين إلا أن اللقاء كان سجالاً حتى هذه اللحظات..
كان هذا هو الجزء الأول من الخطة الإسلامية: استنزاف القوات المغولية التترية في حرب متعبة، والتأثير على نفسياتهم عند مشاهدة ثبات المسلمين وقوة بأسهم..
ثم جاء وقت تنفيذ الجزء الثاني من الخطة الإسلامية البارعة.. ودقت الطبول دقات معينة لتصل بالأوامر من قطز إلى بيبرس ليبدأ في تنفيذ الجزء الثاني من الخطة..
خطة الانسحاب والكمائن
وكان الجزء الثاني من الخطة عبارة عن محاولة سحب جيش التتار إلى داخل سهل عين جالوت، وحبذا لو سُحب الجيش بكامله، بحيث تدخل قوات التتار في الكمائن الإسلامية تمهيداً لحصارها..
وبدأ ركن الدين بيبرس في تنفيذ هذا الجزء من الخطة على صعوبته، فكان عليه أن يُظهر الانهزام أمام التتار، ويتراجع بظهره وهو يقاتل، على ألا يكون هذا التراجع سريعاً جداً حتى لا يلفت أنظار التتار إلى الخطة، ولا بطيئاً جداً فتهلك القوة الإسلامية القليلة أثناء التراجع.. وهذا الميزان في الانسحاب يحتاج إلى قدرة قيادية فائقة، كما يحتاج إلى رجال أشداء مهرة في القتال..
وقد كانت هذه العوامل متوافرة في الجيش بحمد الله، وقبل هذا بالطبع كان توفيق الله عونًا لهذا الجيش الصامد..
خطة معركة نهاوند
هذه الخطة يا إخواني هي نفس خطة القوات الإسلامية في معركة نهاوند الشهيرة ضد القوات الفارسية وذلك في سنة 19هـ، وكان يقوم بدور ركن الدين بيبرس القائد الإسلامي الفذ الصحابي القعقاع بن عمرو التميمي ، وكان يقوم بدور قطز رحمه الله الصحابي الجليل والفارس العظيم النعمان بن مقرّن ، وقام ساعتها القعقاع بن عمرو التميمي بسحب قوات الفرس الرهيبة في الكمين الإسلامي الذي قضى على قوات الفرس تماماً في نهاوند..
وهنا في عين جالوت يستفيد قطز رحمه الله من تجارب المسلمين السابقة ويطبق خطة نهاوند بحذافيرها..
وبدأ ركن الدين بيبرس في الانسحاب التدريجي المدروس، وكلما رجع خطوة تقدم جيش التتار في مكانه..
وقام المسلمون بتمثيلية الانهزام خير قيام، وتحمس كتبغا ومن معه للضغط على المسلمين، وبدءوا يدخلون السهل وهم يضغطون على المسلمين، ومر الوقت ببطء على الطرفين، ولكن في النهاية دخل جيش التتار بكامله إلى داخل سهل عين جالوت, وانسحب ركن الدين بيبرس بمقدمة الجيش إلى الناحية الجنوبية من سهل عين جالوت، وفي غضون حماسة كتبغا للقضاء على جيش المسلمين لم يترك أياً من قواته الاحتياطية خارج السهل بل أخذ معه كل جنوده!!
غباء القوة
كيف فعل كتبغا ذلك؟
إنه خطأ عسكري لا ريب !!
وكتبغا قائد عسكري بارع، وذو خبرة طويلة جداً في مجال الحروب، فقد جاوز الستين من عمره، ولعله جاوز السبعين، فهو من الذين عاصروا جنكيزخان، وجنكيزخان مات قبل هذه الموقعة بأربعة وثلاثين سنة، قضاها كتبغا كلها في حروب وقيادة..
لقد كان من المفروض عليه كقائد محنك أن يترك قوات احتياط خارج السهل لتؤمن طريق العودة في حال الخسارة، ولتمنع التفاف الجيش الإسلامي حول التتار، ولتراقب أي تحركات مريبة لجيوش أخرى قد تأتي لمساعدة الجيش الإسلامي..
لكن هذا لم يحدث !!
لقد توقفت العقلية المغولية التترية عن التفكير السليم في وقت حساس جداً من أوقات المعركة.. قد يفسر ذلك برغبة كتبغا في القضاء الكامل على قوات المسلمين وبحسم، وقد يفسر بضعف من المخابرات التترية التي لم تدرك حجم الجيش الإسلامي الحقيقي، وقد يفسر بالغرور والصلف الذي كان يملأ كتبغا من أم رأسه إلى أخمص قدميه مما جعله يستهين تماماً بقوات المسلمين، وقد يفسر بأن هناك أهدافاً تكتيكية معينة في ذهن كتبغا لا نعرفها..
قد يفسر بأي شيء من هذا أو بغيره.. لكن كل هذه التفاسير لا تعطي مبرراً مقبولاً لهذا الخطأ العسكري الفادح الذي لا يقع فيه مقاتل مغمور في مطلع حياته العسكرية، فضلاً عن قائد مخضرم مثل "كتبغا"!!
ولكن يبقى التفسير الوحيد المقبول في مثل هذا الموقف هو أن هذا تدبير رب العالمين I، الذي يخرج عن القياسات العادية للبشر، ويدفع أشخاصاً بعينهم لأفعال معينة في ظروف معينة.. ولو تكررت نفس الظروف ألف مرة فلعل الرجل لا يأخذ نفس القرار أبداً، ولكن الله أراد لهذا الجيش التتري الهلكة على يد الجيش المسلم، فدفع كتبغا إلى اتخاذ قرار لا يتناسب أبداً مع إمكانيته كقائد عسكري، ولا يتناسب مع قوات جيشه كجيش ضخم، ولا يتناسب مع ساحة المعركة التي تعتبر كالقفص الذي له باب واحد، فإذا دخل الجيش بكامله القفص وأغلق الباب فالنجاة تكاد تكون مستحيلة..
{وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
وهكذا دفع كتبغا جيشه دفعاً للدخول بكامله في سهل عين جالوت..
وبذلك نجح الجزء الثاني من الخطة الإسلامية نجاحاً مبهراً..
وبدأ تنفيذ الجزء الثالث من الخطة..
كتبغا والمغول في المصيدة
وجاءت إشارة البدء من قطز عن طريق الطبول والأبواق..
ونزلت الكتائب الإسلامية العظيمة من خلف التلال إلى ساحة المعركة.. نزلت من كل جانب، وأسرعت فرقة قوية لتغلق المدخل الشمالي لسهل عين جالوت، وبذلك في دقائق معدودات أحاطت القوات الإسلامية بالتتار إحاطة السوار بالمعصم..
الخطة تسير في منتهى الإحكام والدقة، ومع ذلك فهذه الخطة تحمل في طياتها خطورة عظيمة على الجيش الإسلامي نفسه.. لماذا؟ لأن حصار التتار دون ترك فرصة الهروب لهم سوف يدفع كل الجنود التتار لإخراج كل طاقاتهم.. إنهم سيقاتلون قتال المستميت..
قتال المحصور.. قتال الحياة أو الموت وليس قتال الهزيمة أو النصر..
لكن في نفس الوقت إن نجحت الخطة فسوف يكون فيها هلاك عدد ضخم من الجيش التتري.. وقد تكون هذه هي الضربة القاصمة القاضية على هذا الجيش الرهيب..
واحتدم اللقاء
واكتشف كتبغا الخطة الإسلامية بعد فوات الأوان، وحُصر هو والتتار في داخل سهل عين جالوت، وبدأ الصراع المرير في واحدة من أشد المعارك التي وقعت في التاريخ.. لا مجال للهرب، ولا مجال للمناورات.. السهل منبسط والمساحات مكشوفة، وليس هناك من حماية إلا خلف السيوف والدروع.. لا بديل عن القتال حتى الموت..
حرب ضارية بشعة.. أخرج التتار فيها كل إمكانياتهم، وبدءوا يقاتلون بحمية بالغة.. والمسلمون صابرون ثابتون..
وظهر تفوق الميمنة التترية ـ كما أخبر بذلك رسول صارم الدين أيبك ـ وبدأت الميمنة التترية تضغط على الجناح الأيسر للقوات الإسلامية، وبدأت القوات الإسلامية تتراجع تحت الضغط الرهيب للتتار، وبدأ التتار يخترقون الميسرة الإسلامية، وبدأ الشهداء يسقطون، ولو أكمل التتار اختراقهم للميسرة فسيلتفون حول الجيش الإسلامي، وتتعادل بذلك الكفتان، وقد ترجح كفة التتار.. ويصبح إغلاق السهل خطراً على المسلمين..
وقطز رحمه الله يقف في مكان عال خلف الصفوف يراقب الموقف بكامله، ويوجه فِرَق الجيش إلى سد الثغرات، ويخطط لكل كبيرة وصغيرة..
قطز في عين جالوت
شاهد قطز رحمه الله المعاناة التي تعيشها ميسرة المسلمين، فدفع إليها بقوات احتياطية، ولكن الضغط التتري استمر، وبدأ بعض المسلمين يشعر بصعوبة الموقف، ولعل بعضهم قد شك في النصر، ولا ننسى السمعة المرعبة لجيش التتار الذي قيل عنه إنه لا يهزم..
وقطز رحمه الله يشاهد ذلك، ويدفع بقوات إضافية إلى الميسرة، ولكن الموقف تأزم جداً، هنا لم يجد قطز رحمه الله إلا حلاً واحداً لا بديل له..
لا بد أن ينزل بنفسه رحمه الله إلى ساحة القتال..
لا بد أن يثبّت جنوده بالطريقة التي اعتادها معهم... طريقة القدوة!
لا بد أن يوضح لجنوده بطريقة عملية أن الموت في سبيل الله غاية ومطمح وهدف..
نحن نريد الآخرة.. وهم يريدون الدنيا.. وشتان!!
هنا فعل قطز رحمه الله فعلاً مجيداً..
لقد ألقى بخوذته على الأرض.. تعبيراً عن اشتياقه للشهادة، وعدم خوفه من الموت، وأطلق صيحته الشهيرة التي قلب الموازين في أرض المعركة..
واإسلاماه
لقد صرخ قطز رحمه الله بأعلى صوته: واإسلاماه.. واإسلاماه..!!
وألقى بنفسه رحمه الله وسط الأمواج المتلاطمة من البشر..
وفوجئ الجنود بوجود القائد الملك المظفر قطز رحمه الله في وسطهم.. يعاني مما يعانون ويشعر بما يشعرون.. ويقاتل كما يقاتلون..
أي تأييد؟! وأي تثبيت؟! وأي سكينة؟! وأي اطمئنان؟!!
القضية إذن واضحة جداً أمام الجميع.. القضية قضية إغاثة الإسلام والدفاع عنه.. القضية ليست أبداً حفاظاً على ملك.. أو حماية لكرسي.. القضية ليست حرصاً على توريث لابن أو عائلة..
القضية ـ يا إخواني ـ قضية صادقة..
وشتان بين القائد الصادق الذي يعيش لدينه ولشعبه.. والقائد الكاذب الذي يتكلم كثيراً عن فضائل الأعمال، وهو لا يعيش إلا لنفسه..
والتهب حماس الجنود، وهانت عليهم جيوش التتار، وحملوا أرواحهم على أكفهم، وانطلقوا في جسارة نادرة يصدون الهجمة التترية البشعة..
إنها ليست هجمة على ذواتهم.. إنها هجمة على الإسلام..
واشتعل القتال في سهل عين جالوت.. وعلا صوت تكبير الفلاحين على كل شيء.. ولجأ المسلمون بصدق إلى ربهم في هذا اليوم المجيد من شهر رمضان..
وقاتل قطز رحمه الله قتالاً عجيباً..
ثم صوب أحد التتر سهمه نحو قطز رحمه الله فأخطأه ولكنه أصاب الفرس الذي كان يركب عليه قطز فقُتل الفرسُ من ساعته، فترجل قطز رحمه الله على الأرض، وقاتل ماشياً لا خيل له! وما تردد، وما نكص على عقبيه، وما حرص على حياته رحمه الله..
ورآه أحد الأمراء وهو يقاتل ماشياً، فجاء إليه مسرعاً، وتنازل له عن فرسه، إلا أن قطز رحمه الله امتنع، وقال: "ما كنت لأحرم المسلمين نفعك!!"
وظل يقاتل ماشياً إلى أن أتوه بفرس من الخيول الاحتياطية!!
وقد لامه بعض الأمراء على هذا الموقف وقالوا له: لمَ لمْ تركب فرس فلان؟ فلو أن بعض الأعداء رآك لقتلك، وهلك الإسلام بسببك..
فقال قطز في يقين رائع: "أما أنا كنت أروح إلى الجنة، وأما الإسلام فله رب لا يضيعه، وقد قتل فلان وفلان وفلان... حتى عد خلقاً من الملوك مثل (عمر وعثمان وعلي y) فأقام الله للإسلام من يحفظه غيرهم، ولم يضع الإسلام "..
رحمك الله يا قطز.. كنت ـ ولا زلت والله ـ قدوة للمسلمين..
وعلى أكتاف أمثالك تنهض الأمم..
ونتيجة مثل هذه المواقف أدت القوات الإسلامية أداءً راقياً جداً في القتال، وأخرجت كل إمكانيتها، ولم تكن قضيتها قضية موت أو حياة كالتتار، بل كانت إما نصر أو شهادة..
وبدأت الكفة - بفضل الله - تميل من جديد لصالح المسلمين.. وارتد الضغط على جيش التتار، وأطبق المسلمون الدائرة تدريجيًّا على التتار.. وكان يوماً على الكافرين عسيراً..
مصرع كتبغا
وتقدم أمير من أمراء المماليك المهرة في القتال وهو جمال الدين آقوش الشمس، وهو من مماليك الناصر يوسف الأيوبي، وقد ترك الناصر لما رأى تخاذله وانضم إلى جيش قطز، وأبلى بلاءً حسناً في القتال، واخترق الصفوف التترية في حملة صادقة موفقة حتى وصل في اختراقه إلى … … … كتبغا.. قائد التتار!!!
لقد ساقه الله إليه!!
ورفع البطل المسلم سيفه، وأهوى بكل قوته على رقبة الطاغية المتكبر كتبغا.. وطارت الرأس المتكبرة في أرض القتال.. وسقط زعيم التتار.. وبسقوطه سقطت كل عزيمة عند جيش التتار.. {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} [الأنفال: 17].
وتغير سيناريو القتال عند التتار.. فما أصبح لهم من هَمّ إلا أن يفتحوا لأنفسهم طريقاً في المدخل الشمالي لسهل عين جالوت ليتمكنوا من الهرب.. وانطلق المسلمون خلف التتار، يقتلون فريقاً ويأسرون فريقاً..
وسقطت جحافل التتار تحت أقدام المسلمين صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية..
ضاعت السمعة .. وسقطت الهيبة.. ومُزّق الجيش الرهيب..
موقعة بيسان
ركز التتار جهدهم على فتح ثغرة في مدخل سهل عين جالوت الشمالي.. واستطاعوا بعد لأْيٍ شديد أن يُحْدثوا ثغرة في الصف المسلم الواقف على باب المدخل، وانطلق التتار في سرعة عجيبة يولون الأدبار، وخرجت أعداد كبيرة يسرعون الخطى في اتجاه الشمال لعل هناك مهربًا.. وجيوش المسلمين تجري خلف جيوش التتار.. لا يتركونهم.. فليس الغرض هو الانتصار في موقعة ما، وتحقيق كسب سياسي مؤقت يتفاوضون بعده.. إنما الغرض تحرير البلاد بكاملها عن طريق الجهاد..
التتار ينهبون الأرض شمالاً، والمسلمون لا يتركونهم..
ووصل التتار الفارون إلى بيسان (حوالي عشرين كيلومتر إلى الشمال الشرقي من عين جالوت) ووجد التتار أن المسلمين جادون في طلبهم، فلم يجدوا إلا أن يصطفوا من جديد، لتدور موقعة أخرى عند بيسان أجمع المؤرخون على أنها أصعب من الأولى، وقاتل التتار قتالاً رهيباً، ودافعوا عن حياتهم بكل قوة، وبدءوا يضغطون على المسلمين, وكادوا أن يقلبوا الأمور لمصلحتهم، وابتلي المؤمنون، وزُلزلوا زلزالاً شديداً، وكانت هذه اللحظات من أحرج اللحظات في حياة القوات الإسلامية.. ورأى قطز رحمه الله كل ذلك..
فهو لم يكن "قريباً من الأحداث".. بل كان "في وسط الأحداث"..
فانطلق قطز يحفز الناس، ويدعوهم للثبات..
ثم أطلق صيحته الخالدة:
واإسلاماه، واإسلاماه، واإسلاماه..
قالها ثلاث مرات، ثم قال في تضرع:
"يا الله!! انصر عبدك قطز على التتار! "..
الله أكبر..
ما أحسن اعترافك يا قطز بعبوديتك في هذا المقام!..
يا الله.. انصر "عبدك" قطز على التتار..
لستُ أنا الملكَ المظفر.. لستُ أميرَ المسلمين.. لستُ سلطانَ مصر..
إنما أنا عبدك..
بالله عليكم.. كيف يلجأ العبد بصدق إلى الله.. ثم يتركه الله U؟
عن أبي هريرة t قال: قال رسول الله r:
"يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني؛ فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم، وإن تقرب مني شبراً تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرب إلي ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيته هرولة"[1]..
لقد دق قطز على الباب الذي ما طرق عليه صادق إلا وفتح له..
لقد تقرب قطز إلى من بيده ملكوت السموات والأرض..
وعندما يخشع ملوك الأرض يا إخوة، لابد أن يرحم جبار السموات والأرض..
لقد كان خشوع قطز الصادق هو الجبل الذي وقع على جيش التتار فأهلكهم..
ما إن انتهى من دعائه وطلبه ـ رحمه الله ـ إلا وخارت قوى التتار تماماً..
نصر المسلمين ونهاية المغول
وبدأ الجنود الذين روعوا الأرض قبل ذلك يتساقطون كالذباب على أرض بيسان..
قضى المسلمون تماماً على أسطورة الجيش الذي لا يقهر..
وارتفعت راية الإسلام وتهاوت راية التتار..
وجاءت اللحظة التي ينتظرها المسلمون منذ أربعين سنة أو تزيد..
{وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 4- 5].
أتدرون كم بقي من جيش التتار بعد عين جالوت؟!
لقد أبيد جيش التتار بكامله !!
لم يبق على قيد الحياة من الجيش أحد بالمرة.. هل سمعتم أمراً كهذا؟!
لقد فني الجيش الذي اجتاح نصف الكرة الأرضية..
فني الجيش الذي سفك دماء الملايين وخرب مئات المدن، وعاث في الأرض فساداً..
وانتصر الجيش الإسلامي العظيم..
هنيئاً لكم أيها المسلمون بالنصر العظيم!!
هنيئاً لك يا قطز.. فقد حان وقت قطف الثمار!!
{وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126].
ماذا فعل قطز رحمه الله عندما رأى جموع التتار صرعى على أرض بيسان المباركة؟
لقد نزل البطل المجاهد العظيم التقي الورع.. نزل من على فرسه..
ومرّغ وجهه في الأرض.. يسجد شكراً لله U!!
ما دخله غرور المنتصرين.. وما رفع رأسه بزهو المتكبرين..
وما شعر أنه قد فعل شيئاً..
بل إن الفضل والمنة لله U.. هو الذي أنعم عليه بأن اختاره ليكون مجاهداً.. هو الذي من عليه بالثبات.. هو الذي ألهمه الحكمة في القتال، والصواب في الرأي.. هو الذي هداه السبيل..
هنا بيت القصيد..
أن تعرف أنك عبد الله.. لا تُنصر إلا بنصره.. ولا تنجو إلا برحمته، ولا تتحرك إلا بإرادته..
{لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ} [الروم: 4].
إذا أردتم أن تعرفوا قطز رحمه الله.. فانظروا إلى كثير من الزعماء الذين ينتفخون كِبراً وزهواً وفخراً، ويتطاولون على خلق الله، ويُصَعِّرون خدودهم للناس، ويمشون في الأرض مرحاً.. كأنما يبغون خرق الأرض أو مطاولة الجبال!! .. وما فعلوا لأمتهم معشار ما فعله قطز رحمه الله..
بل كانوا وبالاً على شعوبهم، ومصيبة على أمتهم..
هنا تبرز قيمة قطز الحقيقية..
"وبضدها تتميز الأشياء"..
ومن هنا فلا عجب أن يُنصر قطز رحمه الله، ولا عجب أن يُخذل غيره..
والله لا يظلم أحداً..
يقول تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
الإنسان هو الذي يختار..
لم يأت قطز رحمه الله في زمان تمكين ولا سيادة.. لم يأت في ظروف طيبة ومريحة..
لم يحكم البلاد وهي قوية قاهرة.. لم يجلس على الكرسي وأموال دولته لا تحصى..
إنما كانت كل الظروف ضده..
لكنه استعان بالله، وعمل بصدق وإخلاص، وحفز الآخرين على العمل معه.. فكان لابد من الوصول..
ويوم يعمل المسلمون كما عمل قطز رحمه الله سيصلون حتماً إلى ما وصل إليه..
وليس بالضرورة أن يحتاج التغيير إلى سنوات أو قرون أو عقود..
فقد كانت عين حالوت بعد عشرة أشهر فقط من تولي قطز مقاليد الأمور..
المهم أن يوجد المخلصون الصادقون العالمون العاملون..
ووعد الله لا يتخلف أبداً..
{إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [غافر: 51].
من ويكيبيديا وقصة التتار
محمود ماهر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق